الخطبة العصماء في التحذير من البدع والموالد للملك سليمان

عرض المقال
الخطبة العصماء في التحذير من البدع والموالد للملك سليمان
4513 زائر
29-01-2013
السلطان سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي المغربي

الخطبة العصماء في التحذير من البدع والموالد للسلطان سليمان بن محمد بن عبد الله رحمهما الله أحد مفاخر ملوك المسلمين في القرن الثاني عشر في المغرب الأقصى ..
وقد نشرت هذه الخطبة وطبعت بعناية الشيخ العلامة محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله .. وأوردها كاملة أيضا الناصري في "الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى" ..

الخطــــــــــــــبة

قال رحمه الله:

" الحمد لله الذي تعبّدنا بالسمع والطاعة، وأمرنا بالمحافظة على السنة والجماعة، وحفِظ ملّة نبيه الكريم وصفيِّه الرؤوف الرحيم من الإضاعة إلى قيام الساعة، وجعل التأسي به أنفعَ الوسائل النافعة. أحمده حمداً ينتج اعتمادَ العبد على ربه وانقطاعَه، وأشكره شكرا يقصُر عنه لسان البراعَة، وأستمدُّ معونتَه بلسان المذلّة والضراعَة، وأصلِّي على محمدٍ رسوله المخصوص بمقام الشفاعة، على العموم والإشاعة، والرضا عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة. أما بعد:

أيها الناس، شرح الله لقبول النصيحة صدورَكم، وأصلح بعنايته أمورَكم، واستعمل فيما يرضيه آمرَكم ومأمورَكم، فإن الله قد استرعانا جماعتَكم، وأوجب لنا طاعتَكم، وحذَّرنا إضاعتَكم، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْا للَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، سِيَما فيما أمر الله به ورسوله، أو هو محرّمٌ بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية، {الَّذِينَ إِنْ مكناهم فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلوة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].

ولهذا نرثي لغفلتكم أو عدم إحساسِكم، ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسِكم، فألقوا لأمر الله آذانَكم، وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانَكم، وطهّروا من دنس البدع إيمانَكم، وأخلصوا لله إسراركم وإعلانَكم، واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طرقَ السنة لتسلُكُوها، وصرَّح بذمّ اللهو والشهوات لتملِكُوها، وكلَّفكم لينظر عملَكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه، واعرِفوا فضلَه عليكم وعُوه.

اترُكوا عنكم بدعَ المواسم التي أنتم بها متلبّسون، والبدعَ التي يزيّنها أهلُ الأهواء ويلبّسون، وافترقوا أوزاعًا، وانتزعوا الأديان والأموالَ انتزاعًا، بما هو حرامٌ كتابًا وسنة وإجماعًا، وتسمَّوْا فُقرَا، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرَا، {قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحياة الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103، 104]، وكل ذلك بدعةٌ شنيعة، وفِعلةٌ فظيعة، وسبَّة وضيعةٌ، وسُنةٌ مخالفة لأحكام الشريعَة، وتلبيسٌ وضلال، وتدليس شيطاني وخبَال، زيّنه الشيطان لأوليائه فوقَّتوا له أوقاتًا، وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهمَ وأقواتًا، وتصدّى له أهل البدع من عيساوة وجلالة، وغيرِهم من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة، وصاروا يترقَّبون لِلَهوِهِمُ الساعات، وتتزاحم على حبال الشيطان وعِصِيِّه منهم الجماعات، وكلُّ ذلك حرامٌ ممنوع، والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع.

فأنشدكم الله عباد الله، هل فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِعمّه سيد الشهداء موسما؟! وهل فعل سيدُ هذه الأمة أبو بكر لسيد الأرسال صلى الله عليه وعلى جميع الصحابة والآل موسمًا؟! وهل تصدّى لذلك أحدٌ من التابعين رضي الله عنهم أجمعين؟! ثم أنشدكم الله، هل زُخرِفت على عهد رسول الله المساجد؟! أم زُوِّقت أضرحةُ الصحابة والتابعين الأماجد؟!

كأني بكم تقولون في نحو هذه المواسم المذكورة وزخرفةِ أضرحة الصالحين وغير ذلك من أنواع الابتداع: حسبُنا الاقتداء والاتباع، " إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون"، وهذه المقالة قالها الجاحدون، هيهات هيهات لما توعدون، وقد ردَّ الله مقالتَهم، ووبَّخهم وما أقالهم، فالعاقل من اقتدى بآبائه المهتدين، وأهل الصلاح والدين، ((خير القرون قرني...)) الحديث[1]، وبالضرورة إنه لن يأتيَ آخرُ هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أوَّلُها، فقد قُبِض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعقْدُ الدين قد سُجِّل، ووعْد الله بإكماله قد عُجِّل، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3]، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة رضي الله عنهم: (أيها الناس، قد سُنّت لكم السنن، وفُرِضت الفرائض، وتُرِكتم على الجادة، فلا تميلوا بالناس يمينا ولا شمالا)، فليس في دين الله ولا فيما شرع نبيُّ الله أن يُتقرّبَ بغناء ولا شطح.

والذكرُ الذي أمر الله بِه، وحثَّ عليه ومدح الذاكرين بِه، هو على الوجه الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن على طريق الجمع ورفع الأصوات على لسان واحد، فهذه سنة السلف، وطريقة صالحي الخلف، فمن قال بغير طريقهم فلا يُستَمَعْ، ومن سلك غيرَ سبيلِهم فلا يُتَّبعْ، {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:115]، {قُلْ هذهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].

فما لكم ـ يا عباد الله ـ ولهذه البدع؟! ءأمْنًا من مكر الله؟! أم تلبيسًا على عباد الله؟! أم منابذةً لمن النواصي بيديْه؟ أم غرورًا لمن الرجوع بَعدُ إليْه؟ فتوبوا واعتبِروا، وغيِّروا المناكرَ واستغفروا، فقد أخذ الله بذنب المترَفين مَن دونهم، وعاقب الجمهورَ لمَّا أغضُّوا عن المنكر عيونَهم، وساءت بالغفلة عن الله عُقبى الجميع؛ ما بين العاصي والمداهن والمطيع.

أفيُزِلُّكم الشيطان وكتاب الله بين أيديكُم؟! أم كيف يضلُّكم وسنةُ نبيِّكم تناديكُم؟ فتوبوا إلى رب الأرباب، {وَأَنِـيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [الزمر:54].

ومن أراد منكم التقرّبَ بصدقةٍ، أو وُفِّق لمعروفٍ أو إطعام أو نفقةٍ، فعلى من ذكرَ اللهُ في كتابِه، ووعدكم فيهم بجزيل ثوابِه، كذوي الضرورة غير الخافيَة، والمرضى الذين لستم بأولى منهم بالعافيَة، ففي مثل هذا تُسَدُّ الذرائِع، وفيه تُمتثَلُ أوامرُ الشرائع، {إِنَّمَا الصَّدَقات لِلْفُقَرَاء وَالْمساكينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالغارمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ} [التوبة:60].

ولا يُتقرَّب إلى مالك النواصي بالبدع والمعاصي، بل بما يَتقرَّب به الأولياء والصالحون، والأتقياء المفلحون: أكل الحلال، وقيام الليال، ومجاهدةُ النفس في حفظ الأحوال بالأقوال والأفعال؛ البطن وما حوى، والرأس وما وعى، وآياتٌ تُتلَى، وسلوكُ الطريقةِ المثلى، وحجٌّ وجهادٌ ورعاية السنة في المواسم والأعياد، ونصيحةٌ تُهدَى، وأمانةٌ تؤَدَّى، وخلقٌ على خلق القرآن يُحدَى، وصلاةٌ وصيام، واجتنابُ مواقعِ الآثام، وبيعُ النفس والمال من الله، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَموالهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} الآية [التوبة:111]، {وَأَنَّ هذا صراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس الصراط المستقيم كثرة الرايات، والاجتماع للبيات، وحضور النساء والأَحداث، وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع والإِحداث، والتصفيق والرقص، وغير ذلك من أوصاف الرذائل والنقص، {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8].

عن المقداد بن معديكرب رضي الله عنه[2]: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة، وبين يديه راية يحملها، وأناسٌ يتبعونها، فيُسأل عنهم، ويُسألون عنه))، {إذ تبرّأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّأوا منا}.

فيجب على مَن ولاَّه الله من أمر المسلمين شيئًا من السلطان والخلائف أن يمنعوا هذه الطوائف من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، أو يعينهم على باطلهم. فإياكم ثم إياكم والبدع، فإنها تترك مراسمَ الدين خاليةً خاوية، والسكوتُ عن المناكر يحيل رياضَ الشرائع ذابلةً ذاوية، فمن المنقول عن الملل، والمشهورِ في الأواخر والأول، أنَّ المناكر والبدعَ إذا فشت في قوم أحاط بهم سوءُ كسبِهم، وأظلم ما بينهم وبين ربِّهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت فيهم المثُلات، وشحَّت السماء، وحلَّت النقماء، وغِيضَ الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفّت الضروع، ونقعت بركةُ الزروع؛ لأن سوءَ الأدب مع الله يفتح أبوابَ الشدائد، ويسدّ طرقَ الفوائد، والأدبُ مع الله ثلاثةٌ: حفظُ الحرمة بالاستسلام والاتباع، ورعايةُ السنة من غير إخلال ولا ابتداع، ومراعاتها في الضيقِ والاتساع، لا ما يفعله هؤلاء الفقراء، فكلُّ ذلك كذبٌ على الله وافتراء، { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم }، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، كأنَّ هذه موعظةُ مودّع فما تعهَد إلينا؟ أو قال: أوصنا، فقال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة لمن وُلّي عليكم وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعِش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة))[3].

وها نحن ـ عبادَ الله ـ أرشدناكم وحذَّرناكم، فمن ذهب بعدُ لهذه المواسم أو أحدَثَ بدعةً في شريعة نبيِّه أبي القاسم، فقد سعى في هلاك نفسِه، وجرّ الوبال عليه وعلى أبناء جنسِه، وتلّه الشيطان للجبين، وخسِر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }". اهـ



=============================



1] أخرجه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة (2533) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: ((خير الناس قرني...)).

[2] جاء في حاشية جريدة البصائر المنقول منها هذه الخطبة ما نصّه: "كذا في الأصل المنقول عنه (المقداد بن معديكرب)، ولا يوجد في الإصابة هذا الاسم، إنما الموجود المقداد بن الأسود والمقدام بن معديكرب، ولعله هو الصواب هنا، راجع ج3 من الإصابة، ص 454-455. وبعدُ فانظر من خرَّج الحديث وما رتبته فإني لم أقف عليه". وما استظهره المحشِّي هو الصواب، فقد أخرج هذا الحديث ابن أبي عاصم في السنة (1099)، والطبراني في الكبير (20/275) عن المقدام رضي الله عنه، وعزاه الهيثمي في المجمع (5/207-208) إلى الطبراني في الأوسط وقال: "فيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف"، وبه أيضا ضعفه الألباني في ظلال السنة.

[3] أخرجه أحمد (4/126 - 127) وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95 - 96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد، من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).

   طباعة 
0 صوت
روابط ذات صلة
روابط ذات صلة

المقالات المتشابهة المقال التالية